وول ستريت- الحرب بين إيران وإسرائيل في ميزان الأرقام والاحتمالات

المؤلف: شريف عثمان08.27.2025
وول ستريت- الحرب بين إيران وإسرائيل في ميزان الأرقام والاحتمالات

في صيف عام 2019، فاجأ الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترامب، الجميع بقراره المفاجئ في اللحظات الأخيرة بإلغاء ضربة عسكرية أميركية كانت مقررة ضد إيران، وذلك على الرغم من التوترات المتصاعدة التي بلغت ذروتها بعد إسقاط طهران لطائرة أميركية مسيرة.

في حين أن التفسيرات الرسمية ركزت على "الحرص على حماية الأرواح"، رأى العديد من المحللين أن تردد ترامب نابع من دافع اقتصادي أساسي، وهو حرصه البالغ على الحفاظ على الأداء القوي لأسواق الأسهم الأميركية، التي كانت تشهد مكاسب قياسية في تلك الفترة.

لطالما اعتبر ترامب، ولا يزال، الارتفاع المطرد في أسعار الأسهم الأميركية إنجازًا بارزًا من إنجازاته، مما جعله مترددًا في المخاطرة بتقويض ثقة المستثمرين من خلال الدخول في حرب شاملة، الأمر الذي قد يزعزع استقرار الأسواق ويضر بالاقتصاد الأميركي، الذي كان قبل فترة وجيزة يعاني من تداعيات السياسات الحمائية والرسوم الجمركية المفرطة التي هدد ترامب بفرضها، وهو الأمر الذي يبدو أن نتنياهو قد اختار تجاهله.

تنظر وول ستريت إلى المواجهة المحتملة بين إيران وإسرائيل بمنظور يختلف جوهريًا عن التغطيات الإعلامية والسياسية. فبينما تتمحور النقاشات العلنية حول الصراع العسكري والتوترات الجيوسياسية، تركز الأسواق المالية على التأثير المباشر للأزمة على أسعار النفط، والمخاطر التي تهدد حركة رؤوس الأموال، واحتمالية حدوث اضطرابات في سلاسل الإمداد العالمية.

لا يتعامل المستثمرون في وول ستريت مع الحرب كحدث سياسي مجرد، بل كعامل حاسم يؤثر في اتجاهات الأسعار وتقلبات السيولة وظهور فرص أو مخاطر جديدة في الأسواق العالمية.

مع اندلاع أي نزاع بين قوتين بهذا الحجم والنفوذ، كانت أسواق الطاقة، ولا سيما سوق النفط، هي أول من استجاب، حيث تعتبر إيران منتجًا رئيسيًا للنفط وتسيطر فعليًا على مضيق هرمز الحيوي، الذي يمر عبره جزء كبير من صادرات الخليج إلى العالم.

أي تهديد بإغلاق المضيق، ولو كان مؤقتًا أو غير مباشر، سيدفع أسعار النفط إلى الارتفاع بشكل ملحوظ، وهو ما تجسد بالفعل في تحركات سريعة في بورصات الطاقة في نيويورك وشيكاغو.

في الوقت نفسه، أدى التصعيد ضد إسرائيل إلى تعطيل صادرات الغاز من الحقول البحرية إلى أوروبا ووجهات أخرى، مما زاد من الضغوط على أسواق الطاقة التي تعاني بالفعل من الهشاشة منذ الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية قبل ما يزيد على ثلاثة أعوام.

لا تقتصر المشكلة بالنسبة لوول ستريت على أسعار النفط، فالحروب عادة ما تتسبب في اضطرابات واسعة النطاق في الأسواق الناشئة، وتؤدي إلى تدفق سريع لرؤوس الأموال منها نحو ما يعرف بـ "الملاذات الآمنة" مثل الدولار والسندات الأميركية والذهب.

يؤدي هذا السلوك إلى زيادة الطلب على الأصول الأميركية، مما يضعف عملات وأسواق الدول المجاورة لإيران وإسرائيل، مثل تركيا ومصر ودول الخليج، وهو ما تراقبه صناديق الاستثمار والمؤسسات المالية الأميركية عن كثب.

في جميع الأحوال، تدفع المخاطر الجيوسياسية المستثمرين إلى التحلي بقدر أكبر من الحيطة والحذر، مما يجبرهم على إعادة تخصيص محافظهم الاستثمارية وتوجيهها بعيدًا عن الأسواق المتقلبة.

الأمر الآخر الذي يثير قلق وول ستريت هو احتمال توسع نطاق الصراع. فإذا اقتصرت الحرب على هجمات متبادلة بين إيران وإسرائيل، أو إذا توقفت تمامًا، كما أعلن ترامب يوم الاثنين، فقد تستوعب الأسواق الصدمة تدريجيًا.

ولكن إذا امتد الصراع ليشمل حلفاء إيران في لبنان أو العراق أو اليمن، أو إذا استهدف ناقلات في البحر الأحمر، وهو أمر لا يمكن استبعاده تمامًا حتى الآن، فإن الوضع يصبح أكثر خطورة.

ستقوم شركات التأمين برفع أسعارها على شحنات النفط والبضائع، مما سيزيد من تكاليف التجارة الدولية ويقلل من أرباح الشركات، أو يرفع معدلات التضخم في معظم اقتصادات العالم.

ستتأثر أسهم شركات الشحن البحري والتأمين على الفور بمثل هذه التحولات، وسيتصرف المتداولون في وول ستريت بسرعة بناءً على تقييمهم لحجم المخاطر ومدى استدامتها.

راقبت وول ستريت أيضًا ردة الفعل الأميركية عن كثب، وبعد التدخل المباشر للولايات المتحدة في الحرب، تغير ميزان القوى بالتأكيد، وتبدلت الحسابات المالية للبيت الأبيض، خاصة في ظل العجز الكبير في الموازنة الأميركية.

قد تؤدي أي مشاركة عسكرية أميركية إضافية إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، وهو ما قد يلقى ترحيبًا من قطاع الصناعات العسكرية، لكنه يثير في الوقت نفسه مخاوف من اتساع الدين العام وارتفاع أسعار الفائدة، الأمر الذي سيكون له تأثيرات سلبية على النمو الاقتصادي، وبالتالي على أسواق الأسهم.

أما قطاع التكنولوجيا، فربما يكون الأقل تأثرًا بالحرب، لكنه لن يبقى بمنأى عنها، إذ قد تؤدي الهجمات السيبرانية المحتملة بين إيران وإسرائيل إلى تعطيل بعض الخدمات المالية أو التقنية، وقد تصبح البنية التحتية الرقمية ساحة للمواجهة.

تراقب وول ستريت هذه الاحتمالات عن كثب، خاصة وأن الشركات المدرجة في بورصة ناسداك تعتمد بشكل كبير على الاستقرار في الفضاء السيبراني، وأي تهديد واسع في هذا المجال قد يحدث صدمات في أسهم شركات التكنولوجيا شديدة الحساسية للاضطرابات الجيوسياسية.

بالتوازي مع هذه المخاطر، لا تخلو وول ستريت من عقلية المضاربة على الأزمات، إذ سيكون هناك دائمًا من يرى في الحرب فرصة لتحقيق الأرباح، سواء من خلال المراهنة على ارتفاع أسعار النفط، أو شراء أسهم شركات الدفاع (وهو أمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية بكل تأكيد)، أو حتى الاستثمار في الذهب والعملات الرقمية كأصول بديلة.

لهذا، من المتوقع ألا تتحرك الأسواق كلها دائمًا في نفس الاتجاه، بل تتذبذب بشكل يعكس مزيجًا من الخوف والطمع، كما هو الحال في أي أزمة كبرى.

يبقى العامل الحاسم في تقييم وول ستريت للحرب هو "الوقت"، فكلما طال أمد الصراع، زادت التداعيات الاقتصادية عمقًا واتساعًا، واندفعت صناديق التحوط والبنوك الاستثمارية إلى تعديل استراتيجياتها على المدى المتوسط، مما قد يؤدي إلى تحويل القلق إلى موجة تصحيح واسعة في الأسواق العالمية.

لكن بما أن الأزمة قد انتهت بالفعل وتمكنت القوى الدولية من احتواء التصعيد بسرعة، فقد استوعبت الأسواق آثار الضربة وعادت إلى مسارها الطبيعي، واكتفت ببعض التغيرات المؤقتة التي لن تحدث اضطرابًا كبيرًا على المدى الطويل.

على الرغم من كل ما سبق، لا يمكن الجزم بأن العامل الاقتصادي كان الدافع الوحيد وراء مساعي ترامب لاحتواء الأزمة والإعلان عن وقف سريع لإطلاق النار، فقد كانت هناك ضغوط كبيرة من القوى الدولية، بما في ذلك الصين وأوروبا، لتجنب المزيد من الفوضى في المنطقة.

كما لعبت توازنات الردع دورًا مهمًا، حيث يدرك الجميع أن الحرب المفتوحة ستكون مكلفة وغير مضمونة النتائج. ومع ذلك، فمن المؤكد أن الاقتصاد كان عاملاً أساسيًا في تثبيط الرغبة في الحرب، حيث تدرك كل من أمريكا وإسرائيل أن الحرب لا يمكن تمويلها بدون اقتصاد مستقر، ولا يمكن الفوز بها في ظل نظام مالي هش.

كما هو الحال مع جميع الأحداث الكبرى، لم تنظر وول ستريت إلى الحرب بين إيران وإسرائيل من منظور أخلاقي أو سياسي، بل قرأتها بلغة الأرقام والاحتمالات، وسعت إلى تحديد من سيتضرر ومن سيستفيد، مستخدمة حسابات باردة في عالم يشتعل بالأحداث، حيث تتحرك رؤوس الأموال دائمًا نحو ما يبدو آمنًا أو مربحًا، حتى ولو كان ذلك خلف غيوم الحرب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة